دراسات إسلامية

 

 

أثر الإمامين الأوزاعي والشيباني في تدوين الفقه والسير

(1)

 

بقلم:  الأستاذ أشرف عباس القاسمي (*)

 

 

 

 

الشريعة الغراء التي جاء بها سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، رسالة خالدة معقود بنواصيها فلاح البشرية إلى يوم القيامة، وهي تملك حركة ونشاطاً لا يعتريها جمود ولا خمول، وتسع أن تساير ركب الزمان مهما تغيرت الأوضاع وانقلبت الدهور والأيام فإنها لم تكن لشعب دون شعب، لزمان دون زمان؛ إنما كانت للبشرية الجمعاء في كل عصر وزمان وفي كل منطقة ومكان، فلم تنقض عجائبها ولم تنفد حيويتها.

     ومن البواعث المهمة والحوافز الأساسية التي ساعدتها على بقائها وخلودها، ومسايرتها لمتطلبات العصر المتجددة، والقضايا الساخنة والمشاكل النازلة؛ هي صلاحيتها للحياة والإرشاد في كل بيئة وفي كل محيط. ووجودُ رجال أكفاء متحلين بسعة النظر ودقة الذهن وغزارةِ العلم والاعتناء البالغ بالكتاب والسنة، والإلمام بالقضايا المعاصرة، والحرص الشديد على إقامة النظام الإسلامي في جميع مجالات الحياة.

     فالصحابة الأخيار رضي الله عنهم أجمعين هم الرعيل الأول، بعد ما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى الذين واجهوا مشكلات العصر وقاموا بحلها في ضوء نصوص الشريعةِ وتعاليم الكتاب والسنة، وأفتوا فيما حدث من الواقعات والنوازل؛ فكان يفتى من الصحابة سوى الخلفاء الأربعة، عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأم المؤمنين عائشة الصديقة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.

     وسلك مسلكهم واقتفى أثرهم التابعون لهم فأفتوا وأفادوا ودرسوا وأفاضوا واستخرجوا الأحكام من مصدري التشريع الأساسيين عندما احتاجوا إليها، فمن أبرز المفتين فيهم.

     في المدينة المنورة: سعيد بن مسيب المخزومي وعروة بن الزبير بن العوام الأسدي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي وسالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولى ابن عمر ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري.

     وفي مكة المكرمة: مجاهد بن جبر وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح.

     وفي الكوفة: علقمة بن قيس النخعي ومسروق بن الأجدع الهمداني وعبيدة بن عمرو السلماني وإبراهيم بن يزيد النخعي وشريح بن حارث الكندي وعامر بن شراحيل الشعبي.

     وفي البصرة: حسن بن أبي الحسن البصري وأبو الشعثاء جابر بن زيد ومحمد بن سيرين وقتادة بن دعامة السدوسي.

     وفي الشام: أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني وقبيصة بن ذويب ومكحول بن أبي مسلم وعمر بن عبد العزيز الأموي.

     وفي اليمن: طاؤس بن كيسان الجندي ووهب بن منبه الصنعاني ويحيى بن أبي كثير الطائي وغيرهم من أجلة التابعين الذين لهم فضل كبير في الاحتفاظ بكيان الشرع الإسلامي بما يحمل من مرونة وصلاحية للقيادة وهداية الناس إلى الطريق الأقوم وحل جميع مشكلاتهم.

     وبعد ما انقرض عهد التابعين خلفهم أصحابهم الكبار وتلاميذُهم الأبرار، وهي أيام انتشر فيها الإسلام إلى أقصى أنحاء العالم، وتوسعت الحكومة الإسلامية، وخضع لها ربع سكان العالم، وتعرض الإسلام للتحديات، وسنحت القضايا الجديدة والأنظمة الحديثة من نظام التجارة والإدارة والزراعة والري والضرائب والمحاصيل؛ فالأوضاع الدينية والاجتماعية والمشاكل التي واجهوها ألجأتهم إلى أن يقوموا بتدوين أحكام وجزئيات شرعية وثروة فقهية ميسورة ميسرة. وقد منّ الله على أمة الإسلامة أن خوّلها لهذه المسؤولية الكبرى رجالا يُعتبرون من الأفذاذ والنوابغ: فقهًا وأمانة وإخلاصًا وكفايةً، وكان منهم أبو حنيفة ومالك والأوزاعي والليث وابن أبي ليلى وأبويوسف ومحمد الشيباني وأحمد بن حنبل وغيرهم من العلماء الأفذاذ الذين تلقتهم الأمة بالقبول واستضاءت من جهودهم العلمية الرامية إلى التغلب على الوضع الذي واجهه المجتمع المسلم. وقد أنتج كل واحد منهم ثروة علمية وخلف تراثًا فقهيًّا ورتّب قوانين عادلة قائمة على أسس ثابتة بالكتاب والسنة. يقول سماحة الشيخ أبوالحسن علي الحسني الندوي رحمه الله: «وقد جاء هذا الاجتهاد وتدوين الفقه واستنباطُ الأحكام الشرعية في أوانه ومكانه، لم يكن سابقًا للزمن ولا متأخرًا عنه؛ وذلك ما كان تقتضيه طبائع الأشياء وسنّة  الكون وطبيعةُ هذا الدين الإنساني العالمي العام للأزمنة والأمكنة، فكان شيئًا طبيعيًّا منطقيًّا كما هو الشأن في نشوء علم الصرف والنحو وقواعد اللغة العربية وعلومِ البلاغة والبيان؛ بل كان تدوين الفقه ألزم من تدوين العلوم العربية(1).

     و ممن كان لهم أثر كبير في تدوين الفقه وعلم السير القانون الدولي الإسلامي وتوسعةِ نطاقهما وخدمتهما تدريسًا وتاليفاً: الإمام الجليل المحدث العبقري عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي والإمام الفقيه المجتهد الرباني محمد الن الحسن الشيباني رحمهما الله تعالى رحمة واسعة .

     وقبل البدء بذكر جهودهما وأثرِهما البالغ في تدوين الفقه والسير؛ نود أن نشير إلى بعض المزايا والأمور. وإن كانت هي طبيعية التي تشملهما وتجمعهما بالإضافة إلى الأشياء التي نجد فيها خلافاً بينهما فالتي تشملهما هي عدة أمور:

     1 الوطن: كلاهما ينتميان إلى الأرض المباركة الشام، أما انتماء الأوزاعي إلى الشام فمعروف لدى الجميع، قال الحافظ المزي: عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو واسمه يحمد الشامي، أبو عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام في زمانه في الحديث والفقه، كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس، بمحلة الأوزاع، ثم تحول إلى بيروت؛ فسكنهامرابطاً إلى أن مات(2) وما قاله الحافظ الذهبي: أصله من سبى السند فقد رده بعض الباحثين في الهند(3) وأرى أنه لا يوجد وجه وجيه يُدعى به غرابته وابتعادُه عن الصحة؛ فإن الذهبي لم ينفرد في هذا الادعاء. فقد قاله أبوزرعة الدمشقي: كان اسم الأوزاعي عبد العزيز، فسمّى هو نفسه عبد الرحمن، وكان أصله من سباء السند، وكان ينزل الأوزاع فغلب ذلك عليه، وكان ينزل بيروت ساحل دمشق(4). وكذلك نقله عنه الحافظ ابن كثير الدمشقي(5).

     أما الإمام محمد بن الحسن الشيباني فقد قال الخطيب في تاريخ بغداد: محمد بن الحسن أصله دمشقي من أهل قرية تسمى حرستا(6) وقال ابن خلكان: أصله من قرية على باب دمشق في وسط الغوطة، اسمها حرستا(7).

     2 العصر: لاشك أن الإمام عبد الرحمن الأوزاعي أسنّ من الإمام الشيباني؛ فإن الأوزاعي ولد سنة ثمان وثمانين ومات سنة سبع وخمسين ومائة(8) وولد محمد بن الحسن الشيباني سنة اثنتين وثلاثين ومائة وتوفي سنة تسع وثمانين ومائة(9) فالأوزاعي أكبر من الشيباني بأربع وأربعين سنة والشيباني تلمذ عليه وأخذ عنه الحديث، كما ساقه العلامة الكوثري(10)، وعاش الشيباني بعد وفاة الأوزاعي زهاء اثنتين وأربعين سنة. فالعهد الذي جمعهما، هي مدة نحو خمسة وعشرين عاماً، وفي هذا العهد كان الأوزاعي من الأئمة الأعلام في طليعة المحدثين والفقهاء في الشام وطار صيته في أقصى أنحاء العالم، وجعل ينتشر مذهبه في القريب والبعيد. أما الشيباني فكان في هذه المدة حديث العهد بالفقه والحديث، يتلمذ على أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم وزفر بن هذيل، ويتقدم في مجال الفقه شيئًا فشيئًا.

     3 التعفف عن الأمراء والابتعاد عن منصب القضاء: كلاهما يبتعدان عن تسلم القضاء ويحبان الانقطاع إلى العلم والاشتغال به والدأب فيه. قال عقبة: أرادوا الأوزاعي على القضاء فامتنع، فقيل: لِـمَ لَـمْ يُكرهوها: فقال: هو كان أعظم في نفسهم قدرًا عن ذلك(11) روى أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز قال: ولى الأوزاعي القضاء ليزيد بن وليد فجلس مجلسا ثم استعفى فأعفي. وولى يزيدُ ابنَ أبي ليلى الغساني، فلم يزل حتى قتل بالغوطة(12).

     وكذلك كان محمد بن الحسن الشيباني يود الابتعاد عن منصب القضاء والانقطاع إلى التعليم والتدريس، ولذا لما ولى القضاءَ بإشارة من قاضي القضاة أبي يوسف. كان ذلك أحدث الفجوة بينهما، فقد ذكر الذهبي في جزئه: هذا هو السبب الجديد لما بينهما من الجفاء، لأن محمد بن الحسن كان شديد الرغبة في الابتعاد عن الحكم والانصراف إلى العلم والتعليم على طريقة أبي حنيفة، وقد حال دون ما يتوخاه مافعله أبويوسف في حقه، فتألم جدًّا حتى هجره إلى أن مات أبويوسف رحمه الله تعالى وهو هاجر له؛ بل يقال: إن محمدًا لم يحضر الصلاة عليه، لكن الراجح عندي أن سبب عدم حضور محمد جنازتَه ببغداد كونه بالرقة(13). وكذلك بعدهما عن المداهنة لأرباب الحكم وصراحتُهما في بيان الحق؛ معروف لدى الجميع، ونرى أنموذجته في الأوزاعي ما جرى بينه وبين عبد الله بن علي عم السفاح فالأوزاعي صدعه بمُر الحق، ولم يخش فيه لومةَ لائم. ولم يخف على نفسه الموت. وفي الشيباني ما حدث بينه وبين الرشيد في أمان الطالبي، حتى عزله الرشيد من قضاء رقة، ومنع من الإفتاء مدة طويلة.

     الفصاحة: كان الإمام الأوزاعي من أفصح الناس لسانًا وأقدرهم على التعبير والبيان.

     عن أبي عبيد الله كاتب المنصور قال: كانت ترد على المنصور كتب من الأوزاعي نتعجب منها  ويعجز كُتابه عنها، فكانت تنسخ في دفاتر وتوضع بين يدي المنصور، فيكثر النظر فيها استحسانًا لألفاظها. فقال لسليمان بن مجالد: وكان من أحظى كتابه عنده. ينبغي أن تجيب الأوزاعي عن كتبه جواباً تامّاً، قال والله يا أمير المؤمنين: ما أحسن ذلك أنما أرد عليه ما أحسن؛ وأن له نظماً في الكتب، لا أظن أحدا من جميع الناس يقدر على إجابته عنه، وإنما استعين بألفاظه على من لايعرفها ممن نكاتبه في الآفاق(14). وكذلك محمد بن الحسن الشيباني، كان من أفصح الناس، وكان إذا تكلم خيّل لسامعه أن القرآن نزل بلغته(15). وذكر الخطيب بسنده قال الشافعي: لو أشاء أن أقول: إن القرآن نزل بلغة محمد بن الحسن، لقُلته لفصاحته، وقال أيضاً: ما رأيت سمينًا أخف روحاً من محمد بن الحسن وما رأيت أفصح منه(16).

     التاليف: إنهما من المؤلفين الأولين في الإسلام فقد كتب الإمام الأوزاعي كتبًا، ذكر منها ابن النديم كتابين. وقال عبد الرزاق: أول من صنف ابن جريج وصنف الأوزاعي(17) واحترقت كتبه زمن الرجفة ثلاثة عشر فنداقاً(18) وكذلك محمد بن الحسن الشيباني له مؤلفات كثيرة نافعة للغاية؛ ومنها الكتب الستة التي هي كتب ظاهر الرواية في المذهب الحنفي.

     وهناك أمور يمتاز بها أحدهما عن الآخر، مثلاً: الإمام الأوزاعي نشأ يتيماً فقيرًا في حجر أمه، تنقله من بلد إلى بلد. أما الشيباني فإنه نشأ في هناء وعيش رغيد ببيت والده السري المثري؛ فإن أباه كان جنديًّا في جنود الشام معروفاً بالغنى والثروة. وكذلك لم يظهر التقليد لمذهب الشيباني في أي عصر من العصور مع أنه كان إماماً مجتهدًا صاحب المذهب في الفقه. أما الأوزاعي فقد شاع مذهبه في الشام والأندلس، وبقي إلى ما قبل القرن الثالث الهجري. وكذلك ما كتبه الأوزاعي من المؤلفات لانجدها إلا ما نقلت عنه في الكتب الأخرى. أما كتب محمد فهي موجودة ولا تزال تطبع. والأوزاعي غلبت عليه الرواية والشيباني غلبت عليه الدراية.

*  *  *

الهوامش:

أبوالحسن علي الندوي: الاجتهاد ونشأة المذاهب الفقهية ص16.

الحافظ جمال الدين يوسف: تهذيب الكمال 11/311.

راجع مجلة «معارف» العلمية الصادرة من أعظم جراه، الهند، مقال الشيخ مجيب الله الندوي، أبريل 1956م.

تهذيب الكمال 11/315.

البداية 10/118.

زاهد الكوثري بلوغ الأماني ص5.

ابن خلكان: وفيات الأعيان 4/185.

الحافظ المزي تهذيب الكمال 11/317.

الحافظ شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء 9/136.

الكوثري: بلوغ الأماني ص8.

الحافظ المزي: تهذيب الكمال 11/316.

الحافظ شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء 9/136.

الكوثري: بلوغ الأماني ص 37.

الحافظ شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء 7/115.

ابن خلكان: وفيات الأعيان 4/567.

انظر: بلوغ الأماني ص 56.

الحافظ شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء 7/111.

المصدر السابق 7/115.



(*)  أستاذ بالجامعة

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، شعبان 1434 هـ = يونيو - يوليو 2013م ، العدد : 8 ، السنة : 37